السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الشراء والبيع
حياة الأنبياء عليهم السلام حياةٌ كاملة ،
تجمع بين الجوانب
الإنسانيّة والخصائص الرسالية ،
وشأن النبي – صلى الله عليه وسلم
– في ذلك كشأن من سبقه في
النبوّة والرسالة ،
فبشريّته عليه الصلاة
والسلام حاضرةٌ في سيرته ،
يُدركها كل من قرأها ،
فنراه كغيره من الناس يأكل
الطعام ،
ويمشي في الأسواق ،
ويسعى للرزق ،
كما قال الله تعالى :
{ وقالوا مال هذا الرسول
يأكل الطعام ويمشي في الأسواق }
(الفرقان : 7 ) .
وبين يدينا حديثٌ عن أحد
الجوانب البشريّة في حياة النبي
– صلى الله عليه وسلم
- ، وهي علاقته – صلى الله عليه وسلم –
بقضايا الكسب والمعاش ، والبيع والشراء ،
فقد بدأت تلك العلاقة في سنٍّ
مبكرة ومرّت
بمراحل عديدة ،
فكان عليه الصلاة
والسلام يرعى الغنم في
بني سعد وهو غلامٌ مع إخوانه من
الرضاعة ،
مقابل شيءٍ يسير من المال .
ومع مرور الأيّام استفاد النبي – صلى الله عليه وسلم
– من قربه من عمّه أبي طالب
آراءه وخبرته ،
فتعلّم منه فنون التجارة
وأساليبها ،
فما بلغ سنّ الشباب إلا وقد
حاز على شهرةٍ
واسعة في مكّة وما حولها ،
حتى سمعت به خديجة رضي الله عنها ،
فتعاقدت معه على التجارة بمالها
،
فخرج النبي – صلى الله عليه وسلم
– إلى الشام مع غلامها ميسرة ،
وعاد لها بربح وفير ، وسرعان ما
توطّدت
العلاقة التجارية بينهما حتى
تُوّجت بالزواج ،
وظلّ الأمر كذلك إلى أن أكرم الله نبيّه
– صلى الله عليه وسلم – بالرّسالة .
وفي تلك الأثناء كانت للنبي –
صلى الله
عليه وسلم
– شراكاتٌ تجاريّةٌ أخرى مع بعض
أهل مكّة ،
يشير إلى ذلك حديث الذي رواه
الإمام أحمد
أن السائب بن أبي السائب رضي الله عنه كان
شريك النبي
- صلى الله عليه وسلم
- في أول الإسلام في التجارة ،
فلما كان يوم الفتح رآه النبي – صلى الله عليه وسلم
– فقال له : ( قال مرحبا بأخي
وشريكي ) .
أما بعد نزول الوحي فقد كان
شراؤه– صلى
الله عليه وسلم
– أكثر من بيعه ،
لما تتطلّبه أعباء الرسالة من
متابعة وتفرّغٍ
لشؤون الدعوة وتوجيه الناس
والفصل بينهم ،
وغير ذلك من الأمور المهمّة .
ومن الصور التي حُفظت في بيع النبي –
صلى الله عليه وسلم
– ما حدّث به جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
أن رجلا أراد عتق غلامٍ له بعد
موته ،
ثم احتاج للمال ، فأراد النبي – صلى الله عليه وسلّم
– أن يفكّ عنه حاجته فعرض ذلك
الغلام للبيع
، فاشتراه نعيم بن عبد الله رضي الله عنه
بثمانمائة درهم ،
ثم أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم
– تلك الدراهم إلى صاحب العبد ،
والحديث رواه البخاري ومسلم .
وفيما يتعلّق بشرائه – صلى الله عليه وسلم
– فهناك العديد من المواقف التي
تدلّ على
أنه كان يباشر ذلك بنفسه ،
أو يوكل ذلك إلى أحدٍ من
أصحابه ،
فمن ذلك حديث عائشة رضي الله عنها ،
أن النبي - صلى الله عليه وسلم
- اشترى طعاماً من يهودي إلى
أجل ،
ورهنه درعاً من حديد ، رواه
البخاري .
وفي طريق العودة من إحدى
الغزوات اشترى
النبي - صلى الله عليه وسلم
– من جابر بن عبدالله رضي الله عنه جملاً كان
يركبه ،
وعند وصولهم إلى المدينة أعطاه
النبي –
صلى الله عليه وسلم
– الثمن وزاده ، ثم أرجع إليه
جمله ،
والقصّة بتمامها في الصحيحين.
و أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم
- عروة بن أبي الجعد البارقي
رضي الله
عنه
دينارا ليشتري له أضحية ،
فاشترى عروة شاتين بالثمن ثم
باع إحداهما
بدينار ،
ورجع إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -
بشاة ودينار ،
فدعا له بالبركة في بيعه ،
رواه أبو داود .
وربما احتاج النبي – صلى الله عليه وسلم –
إلى المال فيقترض أو يرهن شيئاً
عنده من
سلاحٍ ونحوه ، وقد توفي رسول الله - صلى
الله عليه وسلم
- ودرعه مرهونة عند يهودي
بثلاثين صاعاً من
شعير ، رواه البخاري .
وتعاقد
النبي – صلى الله عليه وسلم
– مع أهل خيبر لممارسة النشاط
الزراعي
لصالح المسلمين ، مقابل أن
يأخذوا شطر
ما يخرج منها من ثمر أو زرع ،
رواه مسلم .
وقد أسّس النبي – صلى الله عليه وسلم –
منهجاً متكاملاً يسير عليه الناس في
تعاملاتهم ،
فحرّم جملةً من المعاملات التي
فيها ضررٌ
أو غبن ، كالتعامل بالربا ،
وبيع الغرر ، وبيع
العِينة ، والتجارة بالمحرّمات ،
وبيّن أهميّة
التقابض بين البائع والمشتري ،
وحدّد أنواع الخيار عند الرغبة
في التراجع عن
الصفقة ،
إلى غير ذلك من الأسس والضوابط
المقرّرة
في سنته .
وبالجملة
فإن كل ما أوردناه من أمثلة تدور
حول محور واحد ،
يتلخّص في أن النبي – صلى الله عليه وسلم
– أراد أن يعلّم أمته أن السعي
في الرزق
وتحصيل القوت لا يتنافى مع
الإقبال على
الآخرة ،
بل هو مطلبٌ من مطالبها ،
علاوةً على كونه سبباً في نهوض
الأمة ورقيّها
، لتنال بذلك مكانةً سامية بين
الأمم ،
والله الموفق .