كان ولدي ..فصار ولدكم ..
في العاشر من شهر آب , مات إبني توفيق في لندن .
توقَّف قلبه عن العمل , كما يتوقف قلب طائر النورس عن الضرب , و هو على بُعد خطوتين من الشمس..
كان توفيق أميراً دمشقيَّاً جميلاً..
كان طويلاً كالزرافة , و شفَّافاً كالدمعة , و عالي الرأس كصواري المراكب . و كانت تتبعه إذا مشى , أزهار اللوتس , و شقائق النُّعمان , و غزالات الصحراء.
* * * * * * * * *
هل الموت , رجل أم هو امرأة ؟
لم أكن ناقش جنس الموت من قبل .
و لكن بعد أن ذهب توفيق , بكل وسامته , و ملاحَتِه, وصورته اليُّوسُفية , تأكدت أن الموت امرأة.. ربطت خصلات شعره الأشقر بمنديلها الحريري .. و خطفته إلى بيتها قبل أن تخطفه واحدةٌ من بنات الأرض.
فيا سيدتي التي تُخبِّئين ولدي في غرفة نومك التي ستائرها غمام , و شراشفها غمام , و مخدَّاتها غمام.
لا اعتراض لي على زواج توفيق منكِ..
فأنا أبٌ عصريٌّ أحترم العشق , و أقف مع العُشَّاق في جميع معاركهم , و لكن من حقِّي_ كأب _ أن أعقد ربطة عنق توفيق في ليلة عرسه...
* * * * * * * *
إنني أنحني أمام رهافة ذوقِك , و روعة اختيارك , وليس في نيِّتي أن أذهب إلى المحاكم , و أقيم عليكِ الدعوى بتهمة اختطاف طالب في السَّنة الثالثة من كليَّة الطِّب .
إنني أعرف سلفاً أن دعواي مردودة , و أن جميع القضاة في العالم _ إذا رأوا صورة توفيق معك _ حكموا لك بالبراءة .. و حكموا عليَّ بالصبر ..
إنني أعرف سلفاً أنَّك لن تعيديه إلي ّ ..
من ذا الذي يختطف ملكاً خُرافي الملامح مثل توفيق , و يرضى أن يعيده إلى العرش ؟
* * * * * * * *
كنت أتصوَّر أن موت ابني هو قضيَّةٌ خصوصيَّةٌ بيني و بينه .. لكن الذي حدث كذَّب جميع تصوُّراتي .فما إنْ خرج توفيق من بيتي حتى انفتحت أمامه أبواب جميع البيوت في العالم العربي.
و ما إن ترك توفيق منزل الأبُوَّة , حتى صار له آلاف الآباء و الأمهات في كل مكانٍ من هذا الوطن العظيم .
في دمشق أعطوه سريراً , و في لبنان كتبوه على أكواز الصنوبر و دفاتر الثلج , و في مصر أهدوه أغلى ما في خان الخليلي من مصاحف , و في بغداد أطعموه المنَّ و السلوى , و في السعوديَّة لفُّوه بعباءةٍ فيها شيءٌ من أنفاس الرسول , و في السودان قدَّموا له عروساً بلون النُّحاس و خشب الأبنوس , و في الأردن وضعوا حول عنقه طوقاً من ياسمين أريحا , و في الكويت و البحرين أهداه صيَّادوا اللؤلؤ أكبر لؤلؤةٍ وجدوها في أعماق البحر.
* * * * * * * *
آه .. ما أروع الموت بين العرب.. و مع العرب .. آه ما أروع الانتماء إلى القبيلة!
إن موت توفيق أعادني بدوياً مغرقاً في بداوته , و ردَّني مرَّةً أخرى إلى بني هاشم , و بني تغلب, و بني مخزوم , و بني تميم , و بني شيبان, و كل أبناء العمومة و الخؤولة الذين يقتسمون معك حياتك , و يقتسمون موتك..
أما هناك.. أما في لندن .. فإن الموت إعلانٌ مدفوع الأجرة في جريدة "التايمز" , و الميِّت زجاجةُ حليبٍ فارغة مرمية في الشوارع الخلفيَّة.
* * * * * * * *
ممرِّضتك الاسبانية في السان جورج هوسبيتال في لندن تبكي بطريقتها الأندلسية ...
و نحن نبكي عليك بطريقتنا العربية ..
و الانكليز يتفرَّجون على دموعنا كما يتفرجون على نوافير الماء في البيكاديللي سيركس...
* * * * * * * *
يا ليتكم حضرتم عرس توفيق في دمشق.
كل المآذن الدمشقية رفعت أعناقها لترى توفيق .. كل حمائم الجامع الأموي فرشت تحت رأسه أجنحتها البيضاء..
كل العصافير التي من عُمر توفيق . و التي وُلِدَت معه , و كبرت معه, و ذهبت إلى المدرسة معه... رافقت طائرته و هي تنزل...تنزل...تنزل كالدمعة على خدِّ دمشق...
* * * * * * * *
كنت كلَّما سألته عن قلبه, أخرَج قلماً أحمر .. و ورقة... و رسم لي قلبه بشكل وردةٍ جوريَّة.
كان يَشرَح لي علَّتَه بعقلية الطَّبيب..
و كنت أعرف _ كشاعر_ أن عُمر الورود الجورِيِّ قصير...
* * * * * * * *
المكاتيب التي أرسَلَها توفيق من هناك .. و ألصق عليها طوابع تُمثِّل مشاهد من الجَنَّة ...تؤكِّد لي أنَّه بخير..
كل ما حدث أنه غيَّر محل إقامته ...
كان في ضيافتي, فصار في ضيافتكم...
كان ولَدي , فصار ولَدَكم.
كان له سريرٌ بين أجفاني , فصار له سريرٌ بين أجفانكم.
كان جواز سفرِه سوريَّاً , فصار جواز سفره عربيَّاً...