من بين المصطلحات التي تلوكها ألسنتنا باستمرار وتتردد
على أذهاننا مرات عديدة :الالتزام والتحرر. هذان المصطلحان اللذان يشكلان
معا ثنائية خطيرة سرعان ما يتلبس مدلولها على كثير من الأذهان البسيطة
لسرعة تشكلها وتلونها وسهولة تلوكها و التلفظ لها .وفي
المقابل صعوبة تمثلها وتطبيقها لتبقى سلوكا فاعلا ومؤثرا ’ولا شك أن
الالتزام يعني التشبث بشيء معين’ قد يكون رأيا أو موقفا أو مبدءا’.ومعاهدة
النفس على عدم التخلي عنه. فيصير صاحبه مجبرا على الدفاع عنه مستعدا لتحمل تبعاته. بينما التحرر يلغي هذا الالتزام وهذا التعهد .فيؤثر صاحبه التحليق
في كل اتجاه يراه مطابقا لرغباته الملحة حسب ما تمليه في حينها’ ولكن
التحرر بهذه الصورة يعني التخلص نهائيا من كل ارتباط أو تعهد مهما كان نوعه
أو حجمه’ومهما كانت قيمته.. ذلك ما يجعل التحرر في مدلوله أصعب تحديدا من
الالتزام .ولتوضيح ذلك سأتناول ثلاث حالات علها توصلنا عمق الظاهرة:
الاولى: شخص
متخلق مهذب لطيف’ملتزم بسلوك وفق قناعات معينة’وحسب نظام خاص يجد فيه
سعادته... ثم يأتي شخص آخر لا يعجبه هذا السلوك’ فينتقده ويدعو صاحبه إلى
التحرر منه وتبني ما يناقضه؟!
الثانية: فنان
أو أديب متبني لمذهب تقليدي في التعبير عن أفكاره ويجد في ذلك متعة
ونشاطا’ ثم يأتي آخر يرى عدم وجود جدوى ذلك المذهب فينتقده ويدعو إلى
التحرر منه...
الثالثة: سائق يحافظ على قانون السير فيجد راحته’وذاته في عدم خرق هذا القانون’ فيأتي آخر ليعتبره مبالغا في سلوكه مثاليا وان الظروف تقتضي الخرق متى تأتى ذلك؟
هذه الحالات التي سقتها على سبيل المثال لا الحصر’ تجعل للتحرر معنى الزيغ والانحراف والتمرد,وليس ذلك المعنى البراق الذي يسر الناظر ويغريه بالاستمتاع رؤية واستنشاقا,ويشعره بالانطلاق الكلي أو يوهمه بتحقيق ذلك..فالدعوات إلى التحرر قديمة قدم صراع الأجيال فكلما برزت دعوة إلى التحرر أو ظهرت بموازاته أو بعدها دعوة أخرى إلى التحرر من التحرر الأول ولعل
الصورة الحقيقية والثابتة لمدلول التحرر هي التي رسمها الإسلام على يد
محمد صلى الله عليه وسلم وبوحي من العلي القدير’ فاخرج بها الإنسان من
متاهات الجاهلية ودروب المتيافيزقيا ’إلى طريق الهداية التي تراعي
التوازن... فكل تحرر لابد له من شروط وقيود تحصنه ليكون حصنا قائما بذاته..
بمنأى عن الانحراف والزيغ والتمرد القائم على الانفعال الآني الذي غالبا
ما يصاحبه الندك والواقع أننا لا نجد مكانا لرصد هذه الثنائية الخطيرة إلا
في النفس الإنسانية بأنواعها الثلاثية كما حددها القران الكريم : النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة , والنفس المطمئنة ولذلك عندما نبحث في سر سعادة المؤمن الحقيقي , نجدها في إيمانه لأنه كلما قوي إيمانه بربه
تخلص من عقده الدنيئة وتحرر منها وذلك
يكون التحرر هو الالتزام بعينه. وفي الدعوة إلى الإباحية والانحلال -بدعوى
التحرر من القيود المفروضة على الغريزة الجنسية والتمرد على الرقابة
الأخلاقية الدينية -ما هي إلا دعوة إلى ارتباط أقوى واشد بسلطان هذه
الغريزة .وبعد :
فان الالتزام هو الذي يحدد بقية ملامح الشخصية ’يحقق الذات ويحرر بالتالي من الالتزام بالنقيض....